ومن مضار الغضب
الاجتماعية أنه " يوَّلد الحقد في القلوب ، وإضمار السوء للناس ، وهذا
ربما أدى إلى إيذاء المسلمين وهجرهم ، ومزيد الشماتة بهم عند المصيبة ، وهكذا تثور
العداوة والبغضاء بين الأصدقاء ، وتنقطع الصلة بين الأقرباء ، فتفسد الحياة وتنهار
المجتمعات " ( 6 ) .
أما مضاره
الجسمية و النفسية فكثيرةٌ جداً حيث " ثبت علمياً أن الغضب كصورةٍ من صور
الانفعال النفسي يؤثر على قلب الشخص الذي يغضب تأثيراً يُماثل تمامًا تأثير العدْو
أو الجري في إجهاده للقلب لا يستمر طويلاً ؛ لأن المرء يُمكن أن يتوقف عن الجري إن
هو أراد ذلك " ( 7 ) .
كما أشارت بعض
الدراسات إلى أن للغضب العديد من المضار الجسمية على صحة وسلامة الإنسان التي منها
التعرض لارتفاع ضغط الدم ، واحتمال الإصابة بالأزمات القلبية نتيجة التوتر الشديد
الذي يُصاب به الإنسان الغاضب الذي يتعرض " لتغير لونه ، وطفح دمه ، وانتفاخ أوداجه
، وارتعاد أطرافه ، واضطراب حركته ، وتلجلج كلامه " ( 8 ) .
وليس هذا فحسب
؛ فهناك بعض المضار الأُخرى التي ربما أودت بحياة الإنسان حيث يمكن أن تؤدي "
شدة الغضب والانفعال إلى سرعة خفقان القلب أو انفجار شرايين المخ ، أو الإصابة
بالجلطة القلبية إذا كان الغاضب يشكو من ضعفٍ في القلب " ( 9 ) .
وللغضب
تأثيراتٌ سيئة على الجانب الفكري عند الإنسان إذ إن " الانفعال الشديد
يُعطل التفكير ، ويُصبح الإنسان غير قادرٍ على التفكير السليم أو إصدار القرارات
السليمة ، وبذلك يفقد الإنسان أهم وظائفه التي يتميز بها وهي الاتزان العقلي
" (
10 )
.
وهذا معناه أن
الإنسان الغاضب غير قادرٍ - في الغالب - على ضبط نفسه ، والتحكّم في تصرفاته
نتيجةً لقوة غضبه ، وشدة انفعاله ، التي تحول دون ضبطه لنفسه والتحكم في تصرفاته ،
وتدعوه في الغالب إلى المواجهة أو الانتقام أو نحو ذلك من الأقوال أو الأفعال .
علاج الغضب :
انطلاقاً من
كون الغضب طبعٌ بشريٌ فطريٌ لا يُمكن دفعه ، فإن من عظمة الإسلام وكماله أن اعترفت
التربية الإسلامية بذلك وبيَّنت طرق الوقاية منه ، وكيفية علاجه ، بطرقٍ مختلفة ،
ووسائل متنوعة نُجملها في ما يلي :
أولاً / محاولة
البُعد عن دواعي الغضب وتجنب أسبابه ، وعدم التعرض لما يؤدي إليه من الأقوال والأفعال
التي منها : " الكِبـْرُ و التعالي والتفاخر على الناس ، والهزءُ و السُخرية
بالآخرين ، وكثرة المزاح ولاسيما في غير حق ، والجدل و التدخل فيما لا يعني ،
والحرص على فضول المال أو الجاه "(11) .
ثانياً / الاستعاذة
بالله العظيم من الشيطان الرجيم عملاً بقوله تعالى : } وَإِمَّا
يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ { ( سورة الأعراف: الآية
رقم 200 ) . فالإنسان الغاضب عندما يستعيذ بالله تعالى من الشيطان إنما
يعتصم بعظمة الله تعالى ويلوذ بها ، ويستحضرها في نفسه لما في ذلك من طردٍ للشيطان
ودحره وإبطال مكره ، ومن ثم يسكن الغضب وتهدأ ثورته – بإذن الله تعالى -. فعن
سليمان بن صُرَد أنه قال : استب رجلان عند النبي e فجعل أحدهما تحمَّر عيناه ، وتنتفخ أوداجه
. فقال رسول الله e :
" إني لأعرف كلمةً لو قالها هذا لذهب عنه الذي يجد ، أعوذ بالله من الشيطان
الرجيم " ( أبو داود ، ج 4 ، الحديث رقم 4781 ، ص 249 ) .
ثالثاً / التزام
الصمت وعدم الكلام لما في ذلك من الحيلولة – بإذن الله – دون وقوع
الغاضب في ما لا تُحمد عُقباه من بذيء اللفظ وسيئ الكلام ( سباً ، أو شتماً ، أو
سخريةً ، أو نحو ذلك ) . ولأن " من الناس من لا يسكت عند الغضب ، فهو ثورةٌ
دائمة ، وتغيظٌ يطبع على وجهه العُبوس . إذا مسَّه أحدٌ ارتعش كالمحموم ، وأنشأ
يُرغي و يُزبد ، و يلعن ويطعن " ( 12 ) .
ولهذا كان
سكوت الغاضب و تركه للكلام علاجاً مناسباً للغضب لما روي عن ابن عباسٍ رضي الله
عنهما أن النبي e قال : " إذا
غضب أحدكم فليسكت " قالها ثلاثاً . ( أحمد ، ج 1 ، الحديث رقم 2136 ، ص 239 )
.
وهنا يلاحظ
الإعجاز التربوي النبوي المتمثل في توجيهه e للغاضب بالتزام الصمت وعدم الكلام " وهذا
دواءٌ عظيمٌ للغضب ؛ لأن الغضبان يصدر منه في حال غضبه من القول ما يندم عليه في
حال زوال غضبه كثيراً من السباب وغيره ، مما يعظم ضرره ، فإذا سكت زال هذا الشر
كله عنه " ( 13 ) .
رابعاً/ التصاق الإنسان الغاضب بالأرض
لما روي عن أبي سعيد الخُدري t مرفوعاً أن النبي e قال : " ألا
وإن الغضب جمرةٌ في قلب ابن آدم ، أما رأيتم إلى حُمرة عينيه وانتفاخ أوداجه ، فمن
أحس بشيءٍ من ذلك فليلصق بالأرض " ( الترمذي ، ج4 ، الحديث رقم 2191 ، ص 483 )
. ولعل المقصود بالالتصاق هنا بقاء الغاضب في مكانه وعدم الحركة كما يُشير إلى ذلك
أحد الباحثين بقوله : " نُلاحظ في هذا الحديث لوناً من ألوان العلاج لثورة
الغضب ، وصفه الرسول e ألا وهو
اللصوق بالأرض ، والغرض منه تجميد كُلَّ حركةٍ يمكن أن ينجم عنها آثارٌ غضبية
مادية " (
14 ).
خامساً / الانشغال
بذكر الله تعالى لما في ذلك من حصول الطمأنينة والسكينة مصداقاً لقوله تعالى :
} أَلا
بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ { (
الرعد : من الآية 28 ) . كما أن في ذلك تذكيرٌ للنفس الغاضبة بعظمة الله جل في
عُلاه وقدرته ، وحثٌ على الخوف منه سبحانه لا سيما متى كان غضب الإنسان على من هو
قادرٌ على عقابه والانتقام منه . وقد ورد أنه " وجد في التوراة مكتوباً : ي
ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكُرك حين أغضب فلا أمحقك فيمن أمحق " ( 15 ) .
سادساً / تغيير
الحالة التي يكون عليها الغاضب إلى حالةٍ أُخرى لأن في ذلك شغلٌ له وانصرافٌ –
ولو يسير – عن ما هو فيه من غضب ؛ فعن أبي ذرٍ t أن رسول الله e قال : " إذا
غضب أحدكم وهو قائمٌ فليجلس ، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع "( أبو داود ،
ج4 ، الحديث رقم 4782 ، ص 249 ) .
وهنا نلاحظ
إعجازاً نبوياً تربوياً آخر فالغاضب القائم يكون في حالة تهيئٍ واستعدادٍ لسرعة
الانتقام أكثر مما لو كان جالساً أو مُضطجعاً ؛ فجاء التوجيه النبوي الكريم داعياً
إلى تغيير الحالة التي يكون عليها الغاضب منعاً لما قد يتوقع من ردة الفعل
المباشرة ، وعلاجاً لها حيث " أن الجلوس أو الاضطجاع في حالة الغضب يؤديان
إلى استرخاء البدن ، مما يُساعد على مقاومة التوتر الذي أحدثه الغضب ؛ ويؤدي ذلك
في النهاية إلى تخفيف حدة انفعال الغاضب تدريجياً ، ثم التخلص منه نهائياً . كما
أن الجلوس و الاضطجاع يقاومان ميل الإنسان إلى العدوان " ( 16 ) .
سابعاً / المسارعة
إلى الوضوء
الذي له أثرٌ فاعلٌ في تهدئة ثورة الغضب التي تتسبب في فوران دم الإنسان الغاضب
وارتفاع حرارة جسمه ، وبذلك يعود الإنسان إلى وضعه الطبيعي – بإذن الله - . فعن
عطية بن عروة السعدي أنه قال : قال رسول الله e : " إن الغضب من الشيطان ، وإن الشيطان
خُلق من النار ، وإنما تُطفأ النار بالماء ، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ " ( أبو
داود ، ج 4 ، الحديث رقم 4784 ، ص 249 ) . وقد عَلَّق أحد المختصين على هذا الحديث
بقوله : " ويُشير هذا الحديث إلى حقيقةٍ طبيةٍ معروفة ؛ فالماء البارد يُهدئ
من فورة الدم الناشئة عن الانفعال ، كما يُساعد على تخفيف حالة التوتر العضلي و
العصبي " (
17 )
.
ثامناً / كظم
الغيظ
بعدم إنفاذ الغضب ، ومحاولة إخماد جذوته لما في ذلك من الفضل العظيم الذي قال فيه سبحانه
وتعالى : } وَالْكَاظِمِينَ
الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ { ( آل عمران :
من الآية 134 ) . وروي عن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) عن النبي e أنه قال :
" .. وما من جرعةٍ أحبُ إليَّ من جرعة غيظٍ يكظمها عبدٌ ؛ ما كظمها عبدٌ لله
إلاَّ ملأَ جوفه إيماناً " ( أحمد ، ج 1 ، الحديث رقم 3017 ، ص 327 ) .
وعن معاذ بن
أنس أن النبي e قال : " من
كظم غيظاً وهو يقدر على أن يُنفذه ، دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى
يُخَيَّره في أي الحور شاء " ( الترمذي ، ج 4 ، الحديث رقم 2493 ، ص 656 ) .
وهذا فيه بُعدٌ تربويٌ يُشجع المسلم على التحكم في انفعالات النفس ، وعدم
الاستجابة لها ، كما أن فيه تعويدٌ لها على قهر الغضب ، والعمل على عدم إنفاذه
رغبةً فيما أعدَّه الله تعالى لمن ابتغى بذلك الأجر والثواب .
تاسعاً / العمل
على ترويض النفس وتربيتها بين الحين والآخر على التحلي بفضائل الأخلاق وكريم
السجايا وحميد الصفات حتى تعتاد الحلم والصفح ، وتألف الصبر والتروي ، وتتربى على
عدم الاندفاع والتسرع في الرد والانتقام عند الغضب سواءً بالقول أو الفعل . وهكذا
مرةً بعد مرة يُصبح ذلك طبعاً عند الإنسان المسلم مقتدياً فيه برسوله e الذي كان يسبق
حلمه غضبه ، وعفوه عقوبته " فالمؤمن الذي يعلم فضل الحلم عند الله ، ويُلاحظ
الثواب العظيم الذي أعدَّه الله للحُلماء ، لا بُد أن يجد في نفسه اندفاعاً قوياً
لاكتساب فضيلة الحلم ، ولو على سبيل التكلف ومُغالبة النفس ، وبعد التدرب خلال
مدةٍ من الزمن قد تطول أو لا تطول فقد يُصبح الحلم سجيةً خُلقية مكتسبة ، ولو لم
يكن في الأصل طبعاً فطرياً " ( 18 ) .
عاشراً / العمل
على التحكم في الانفعالات وامتلاك النفس عند الغضب كنوعٍ من قوة الشخصية
التي حث عليها النبي e في ما روي عن أبي
هريرة أن رسول الله e قال : " ليس الشديدُ بالصُّرَعَة ، إنَّما
الشديدُ الذي يملكُ نفسهُ عند الغَضَب " ( البخاري ، ص 1066 ، الحديث رقم
6114 ) . والمعنى المُراد يتمثل في كون " القوة الحقيقية تكمن في امتلاك
النفس والسيطرة عليها عند فوران الغضب " ( 19 ) .
وهذا فيه
تربيةٌ للإنسان المسلم على مُجاهدة النفس ومُغالبتها على عدم الغضب " لأن
تعلم التحكم في انفعال الغضب إنما يُقوي إرادة الإنسان على التحكم في جميع أهواء
النفس وشهواتها ، ويُمكِّن الإنسان في النهاية من أن يكون مالك نفسه وسيدها وليس
عبداً لانفعالاته ، وأهوائه وشهواته " ( 20 ) .
حادي عشر / صرف
انتباه الإنسان الغاضب إلى ما يُبعده عن الغضب بوسيلةٍ أو بأخرى حتى
يحول ذلك دون استمرار ثورة الغضب . يقول أحد الباحثين : " ومما يُساعد على
التخلص من انفعال الغضب أيضاً تغيير حالة الإنسان النفسية ، وتوجيه الانتباه إلى
أمور أُخرى بعيداً عن الأمر الذي أثار الغضب ، فيشتغل الإنسان بالتفكير فيه ،
وينصرف عن التفكير في الأمر الذي أثار الغضب . وكذلك فإن مما يُساعد على التخلص من
الانفعال القيام بمجهودٍ بدنيٍ عنيف لتبديد الطاقة البدنية والتوتر العضلي اللذين
أثارهما الانفعال " ( 21 ) .
من صور الإعجاز التربوي النبوي ..الوصية النبويَّة
p لا ..تغضب i
بقلم الدكتور / صالح بن علي أبو عرَّاد
أُستاذ التربية الإسلامية
ومدير مركز البحوث التربوية
بكلية المعلمين في أبها
1426هـ
No comments:
Post a Comment