الآيا ت الكونية
ودلالتها على وجود الله تعالى
للداعية الشيخ محمد متولي الشعراوي
الفصل الرابع
الآيات الأرضية ودلالتها
الليل والنهار وجدا معا
فالقرآن الكريم لم يأت بالدلائل التي تؤكد لنا أن الأرض كروية في آية واحدة، بل جاء في آيات متعددة، لماذا؟ لأن هذه القضية كونية كبرى، ولأن الكتب القديمة التي أنزلها الله قبل القرآن الكريم قد حرفت بشريا، فأوجدت تصادما بين العلم والدين، ولذلك يأتي القرآن الكريم ليعطينا الدليل تلو الدليل على كروية الأرض.
يقول الله سبحانه وتعالى:
{ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار، وكل في فلك يسبحون} يس 40.
الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة يرد على اعتقاد غير صحيح كان موجودا عند العرب وقت نزول القرآن، وهو أن الليل يأتي أولا ثم بعد ذلك ياتي النهار، أي أن النهار لا يسبق الليل،
ويجيء الحق ليصحح هذا الاعتقاد الخاطئ فيقول:
{ولا الليل سابق النهار}.
أي أنكم تعتقدون أن النهار لا يسبق الليل، ولكن الله يقول لكم: ان الليل أيضا لا يسبق النهار، انهما موجودان معا على سطح الكرة الأرضية، وحيث انه لم يحدث تغيير في خلق الكون أو في القوانين الكونية العليا بعد أن تم الخلق، بل بقيت ثابتة تسير على نظام دقيق حتى قيام الساعة، فلو كانت الأرض على شكل هندسي آخر مربع أو مثلث أو غير ذلك، لكان في ساعة الخلق وجد النهار أولا، ولكن لا يمكن أن يوجد الليل والنهار معا في وقت واحد على سطح الكرة الأرضية، الا اذا كانت الأرض كروية، فيكون نصف الكرة مضيئا والنصف الآخر مظلما.
ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يؤكد هذا المعنى، فذكر آية أخرى تحدد معنى كروية الأرض ودوراتها فقال جل جلاله:
{ وهو الذي جعل الليلة خلفة لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكورا} الفرقان 62.
ما معنى خلفة؟ معناها أن الليل والنهار يخلف كل منهما الآخر، فمثلا في الحراسات المستمرة، تأتي نوبة حراسة لتخلف نوبة سبقتها ثم تأتي نوبة الثالث لتخلف الثانية وهكذا.
واذا فرضنا أن مصنعا يعمل أربعا وعشرين ساعة متوالية، فانه يكون هناك أربع دوريات تخلف كل منهما الأخرى، ولكننا لا بد أن ننتبه الى أنه في كل هذه النظم ، لا بد أن تكون هناك دورية هي التي بدأت ولم تخلف أحدا، فاذا قررنا وضع الحراسة على مكان فان الدورية الأولى تبدأ الحراسة لا نتخلف أحدا لأنها البداية، واذا بدأنا العمل في المصنع فان الدورية الأولى الت افتتجت العمل لم تخلف احدا لأنه لم يكن هناك في المصنع عمل قبلها.
وهكذا في كل شيء في الدنيا، يخلف بعضه بعضا، تكون البداية دائما وليس هناك شيء قبلها تخلفه، ولكن الحق سبحانه وتعالى قال:
{ وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة}.
وما دام الله هو الذي جعل فلا بد أن يكون ذلك حدث ساعة الخلق، فأوجد الليل والنهار خلفة على الأرض، ولكننا كما أوضحنا، فان ساعة البداية في كل شيء لا يكون فيها خلفة، أي لا يخلف شيء شيئا قبله، فهذه هي البدايات، ولكن الله يقول لنا: انه في ساعة البداية كان الليل والنهار خلفة، اذن فلا بد أن يكون الليل والنهار قد وجدا معا ساعة الخلق على الأرض، بحيث أصبح كل منهما خلفة للآخر، فلم يأت النهار أولا ثم خلفه الليل، لأنه في هذه لحالة لا يكون النهار خلف بل بداية، ولم يأت الليل أولا ثم يخلفه النهار لأنه في هذه الحالة لن يكون الليل خلفة بل بداية، ولا يمكن أن يكون الليل والنهار كل منهما خلفة للآخر الا اذا وجدا معا.
ونحن نعلم أن الليل والنهار يتعاقبان علينا في أي بقعة من بقاع الأرض، فلا توجد بقعة هي نهار دائم بلا ليل، ولا توجد بقعة هي ليل دائم بلا نهار، بل كل يقاع الأرض فيها ليل وفيها نهار، ولو أن الأرض ثابتة لا تدور حول نفسها، ووجد الليل والنهار معا ساعة الخلق فلن يكونا خلفة ولن يخلف أحدهما الآخر، بل يظل الوضع ثابتا كما حدث ساعة الخلق، وبذلك لا يكون النهار خلفة لليل ولا الليل خلفة للنهار.
ولكن لكي ياتي الليل والنهار يخلف كل منهما الآخر فلا بد أن يكون هناك دوران الأرض لتحدث حركة تعاقب الليل والنهار، فثبوت الأرض منذ بداية الخلق لا يجعل الليل والنهار يتعاقبان، ولكن حركة دوران الأرض حول نفسها هي التي ينتج عنها هذا التعاقب أو هذه الخلفة التي اخبرنا الله سبحانه وتعالى بها.
اذن فقول الحق سبحانه وتعالى:{ وجعلنا الليل والنهار خلفة}.
يحمل معنيين:
المعنى الأول: أنهما خلقا معا، فلم يسبق أحدهما الآخر، وهذا اخبار لنا من الله سبحانه وتعالى بأن الأرض كروية. والمعنى الثاني: أن الأرض تدور حول نفسها، وبذلك يتعاقب الليل والنهار.
وهكذا نرى الاعجاز القرآني، فالقائل هو الله، والخالق هو الله، والمتكلم هو الله، فجاء في جزء من آية قرآنية ليخبرنا أن الأرض كروية وأنها تدور حول نفسها، ولا ينسجم معنى هذه الأية الكريمة الا بهاتين الحقيقتين معا، هل يوجد أكثر من ذلك دليل مادي على أن الله هو خالق هذا الكون.
ثم يأتي الحق سبحانه وتعالى ليؤكد المعنى في هذه الحقيقة الكونية لأنه سبحانه وتعالى يريد أن يري خلقه آياته فيقول:
{ خلق السموات والآض بالحق، يكوّر الليل على النهار ويكوّر النهار على الليل، وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى، ألا وهو العزيز الغفار} الزمر 5.
وهكذا يصف لحق سبحانه وتعالى بان الليل والنهار خلقا على هيئة التكوير، وبما أن الليل والنهار وجدا على سطح الأرض معا فلا يمكن أن يكونا على هيئة التكوير، الا اذا كانت الأرض نفسها كروية، بحيث يكون نصف الكرة مظلما والآخر مضيئا وهذه حقيقة قرآنية أخرى تذكر لنا أن نصف الأرض يكون مضئيا والنصف الآخر يكون مظلما.
فلو أن الليل والنهار وجدا على سطح الأرض غير متساويين في المساحة، بحيث كان أحدهما يبدو شريطا رفيعا، في حين يغطي الآخر معظم المساحة، ما كان الاثنان معا على هيئة كرة، لأن الشريط الرفيع في هذه الحالة سيكون في شكل مستطيل أو مثلث أو مربع، أو أي شكل هندسي آخر حسب المساحة التي يحتلها فوق سطح الأرض، وكان من الممكن أن يكون الوضع كذلك باختلاف مساحة الليل والنهار، ولكن قوله تعالى:{ يكوّر الليل على النهار ويكوّر النهار على الليل}.
دليل على أن نصف الكرة الأرضية يكون ليلا والنصف الآخر يكون نهارا، وعندما تقدّم العلم وصعد الانسان الى الفضاء ورأى الأرض وصورها، وجدنا فعلا أن نصفها مضيء ونصفها مظلم، كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى.
فاذا أردنا دليلا آخر على دوران الأرض حول نفسها لا بد أن نلتفت الى الآية الكريمة في قوله تعالى:
{ وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السحاب، صنع الله الذي أتقن كل شيء} النمل 88.
عندما نقرأ هذه الآية ونحن نرى أمامنا الجبال ثابتة جامدة لا تتحرك نتعجب لأن الله تعالى يقول:{ تحسبها جامدة}.
ومعنى ذلك أن رؤيتنا للجبال ليست رؤية يقينية، ولكن هناك شيئا خلقه الله سبحانه وتعالى وخفي عن أبصارنا، فما دمنا نحسب فليست هذه هي الحقيقة، أي ان ما نراه من ثبات الجبال وعدم حركتها ليس حقيقة كونية وانما اتقان من الله سبحانه وتعالى وطلاقة قدرة منه بأنه خلق شيئا جعلنا نراه على غير حقيقته وتلك طلاقة قدرة الخالق، لأن الجبل ضخم كبير بحيث لا يخفى عن أي عين، فلو كان الحجم دقيقا لقلنا لم تدركه أبصارنا كما يجب، أو أننا لدقة حجمه لم نلتفت اليه هل هو متحرك أم ثابت، ولكن الله خلق الجبل ضخما يراه أقل الناس ابصارا حتى لا يتحجج أحد بأن بصره ضعيف لا يدرك الأشياء الدقيقة. وفي نفس الوقت قال لنا أن هذه الجبال الثابتة تمر أمامكم مرّ السحاب.
ولماذا استخدم الحق سبحانه وتعالى حركة السحب وهو يصف لنا تحرّك الجبال؟ لأن السحب ليست لها ذاتية الحركة، فهي لا تتحرك من مكان الى آخر بقدرتها الذاتية، بل لا بد أن تتحرك بقوة تحرك الرياح، ولو سمنت الرياح لبقيت السحب في مكانها بلا حركة وكذلك الجبال.
الله سبحانه وتعالى يريدنا أن نعرف أن الجبال ليست لها حركة ذاتية، أي أنها لا تنتقل بذاتيتها من مكان الى آخر، فلا يكون هناك جبل في أوروبا، ثم نجده بعد ذلك في أمريكا وآسيا، ولكن تحركها يتم بقوة خارجة عنها هي التي تحركها، وبما أن الجبال موجودة فوق الأرض فلا توجد قوة تحرك الجبال الا اذا كانت الأرض ذاتها تتحرك ومعها الجبال التي فوق سطحها.
وهكذا تبدوا الجبال أمامنا ثابته أنها لا تغيّر مكانها، ولكنها في نفس الوقت تتحرك لأن الأرض تدور حول نفسها والجبال جزء من الأرض، فهي تدور معها تماما كما تحرك الريح السحاب، ونحن لا نحس بدوران الأرض حول نفسها، ولذلك لا نحس أيضا بحركة الجبال.
وقوله تعالى: { وهي تمر مر السحاب}.
معناها أن هناك فترة زمنية بين كل فترة تمر فيها، ذلك لأن السحاب لا يبقى دائما بل تأتي فترات ممطرة وفترات جافة وفترات تسطع فيها الشمس، وكذلك حركة الجبال تدور وتعود الى نفس المكان كل فترة.
واذا أردنا أن نمضي فالأرض مليئة بالآيات، ولكننا نحن الذين لا ننتبه، واذا نبهنا أحد فان الكفار يعرضون عن آيات الله، تماما كما حدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قال له الكفار في قوله تعالى:
{ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا} الاسراء 90_92.
وكان كل هذا معاندة منهم، لأن الأيات التي نزلت في القرآن الكريم فيها من المعجزات الكثير الذي يجعلهم يؤمنون.
No comments:
Post a Comment